تزامناً مع وفاة ” دبلوماسي العصر” هنري كيسنجر ( 27 مايو 1923- 29 نوفمبر 2023) الزمان الدولية” تحاور الأكاديمي السوري د. محمد خالد الشاكر صاحب أول أطروحة دكتوراة تناولت ” سياسة هنري كيسنجر الخارجية بين الواقع والقانون الدولي العام
– هنري كيسنجر هو أول رجل دولة بخلفية تكنوقراطية في التاريخ وهو أول من وضع استراتيجيات كانت غائبة قبل وصوله إلى السلطة .
– كيسنجر أدرك أنه في ظل التماسك الروحي والتاريخي والعقائدي والأمني والجغرافي للعرب فلن تجدي القوة العسكرية التقليدية وسياسة التوسع الإسرائيلي في التعامل مع العرب .
يعد الدكتور محمد خالد الشاكر من أهم أساتذة القانون العام الذين نشطوا في العقد الأخير والذي تركزت مؤلفاته وكتاباته حول مآلات الثورات العربية، و آليات بناء الدولة الوطنية التي دمرتها الحرب وبالأخص في بلده سورية. يؤمن الشاكر بالعمل الأكاديمي لتحليل الظاهرة السياسية، لأن أية ظاهرة سياسية- حسب تعبيره- تتداخل اليوم مع جملة من العوامل الاقتصادية والثقافية والعسكرية والسيكولوجية.
كتب الشاكر المئات من الدراسات العلمية المحكمة وأصدر العشرات من الكتب التي تناولت آليات التعامل مع الظاهرة السياسية بشكل علمي، ولهذا ركز في كل كتاباته على إشكاليات الصراع الدائر في الدول العربية والأسباب البنيوية التي أدت إلى هذا الانهيار الذي نشهده اليوم.
كما يُعد ” الشاكر” من أهم من كتب عن هنري كيسنجر، حيث كانت أطروحته في الدكتوراة أول أطروحة تتناول ” سياسة هنري كيسنجر الخارجية بين الواقع والقانون الدولي العام”، وحصل عليها درجة ” دكتوراه دولة في الحقوق مع التنوية بالطباعة والتبادل بين الجامعات.
” الزمان الدولية” التقت الأكاديمي السوري الدكتور محمد خالد الشاكر وكان لنا معه هذا الحوار :-
لماذا هنري كيسنجر في أطروحة دكتوراة وبعمب ضخم تجاوز الـ 600 صفحة وتتخصص في القانون العام؟
بداية أتذكر أنّ هذا السؤال طُرح علي من قبل أستاذي المشرف ومن لجنة القراءة لأن العنوان كان غريباً، ولكن كان لدي رؤية خاصة وهدف أخير من هذا العنوان، حتى أن موافقة رئاسة الجامعة استمرت أكثر من ثمانية أشهر للموافقة على العنوان، بعد أن دافعت عن وجهة نظري في اختياري لشخصية أكاديمية كالدكتور هنري كيسنجر الذي حصل على بريقه السياسي في منطقة الشرق الأوسط وفي المنطقة العربية على وجه الخصوص. كنت أريد من الأطروحة أن نهجاً لقراءة معنى التاريخ الذي يتكرر معنا دون أن نقرأه. كما حاولت أن يقرأ صانع القرار العربي هذه الفلسفة الجديدة بشكل علمي لاسياسي أو إعلامي، وكيف وضع آليات صناعة القرار داخلياً عبر آليات بسيطة جوهرها التنظيم والاتساق. أيضاً حاولت أن أقدم عرضاً لشخصية كسرت احتكار السياسة بشخص السياسين في وقت كان الأكاديميين لايحق لهم التدخل في العمل السياسي في الولايات المتحدة، ولكن مع تطور آليات بناء الدولة وحاجات مواطنيها، فكان التحول الكبير في الفكر السياسي المعاصر الذي بدأ مع موات الإيديولوجيا بداية السبعينيات، أي هدم مبدأ ” السياسة للسياسين” على الطريقة الميكيافيلية والتي تعمل على كيفية السيطرة على المواطنين أو الكيفية التي يستطيع من خلالها حزب او شخص الوصول إلى السلطة، وهو المفهوم التقليدي للسياسة المتبعة في دولنا التي دفعت ثمن ذلك هزات عنيفة نشهدها اليوم.
هل تعتقد اليوم أن السياسة أصبحت تحتاج للأكاديميين أكثر من أي وقت مضى. واين موقع الأكاديمي العربي في الخارطة السياسية؟
اليوم تغيرت الأولويات فقد أصبحت الأولوية اليوم في الفكر السياسي لرجل الدولة ( كل في اختصاصه) وأصبح السياسي مجرد أداة تنفيذية تنفيذ الخطط و البرامج التي تم انتخابه على أساسها، وبالتالي فإن آلية الاختيار من قبل الشعب هي المعنى الحقيقي للممارسة السياسية بينما السياسيون هم مجرد أدوات تنفيذية للخطط والبرامج التي انتخبوا من أجلها، وإلا فالمحاسبة. على هذا الأساس كنت أريد أن اقدم في أطروحتي نهجاً علمياً لرجل الدولة سواء في آليات بناء المؤسسات والعلاقة فيما بينها، أو سواء في علاقاته مع الوحدات المكونة للنظام الدولي. كما حاولت قدر المستطاع أن انقل التفكير في بناء الدولة من مهمة سياسية إلى مهمة علمية تكنوقراطية، فقط لأن حاجات المواطنين تغيرت وتغيرت معها بنية الدولة وقوتها. إذ بدأت الدولة تتقيأ الأيديولوجيا وتنبذها لصالح التنمية ورفاهية المواطن وآليات البناء في عالم تتدافع فيه الحاجات اليومية.
أين تضع هنري كيسنجر في هذه المعادلة؟
كخطوط عريضة هنري كيسنجر هو أول رجل دولة بخلفية تكنوقراطية في التاريخ، وهو أول من وضع استراتيجيات كانت غائبة قبل وصوله إلى السلطة في إطار بناء الدولة من الداخل، مركزاً على عوامل أساسية، وهي مراكز البحث العلمي، و الإعلام، و المجمع الصناعي العسكري، كما نجح في تحديد هوية السياسة الخارجية الأمريكية التي كان يصفها بأنها سياسة في مهب الريح و منفعلة وغير فاعلة في القرار الدولي، وهو أول يهودي يصل إلى وزارة الخارجية الأمريكية. لذلك نقل سياسة الولايات المتحدة من دور الوسيط في الصراع الإسرائيلي العربي إلى دور المتحيز بشكل تام لإسرائيل، بحيث أصبحت الأخيرة مخفراً أمامياً للولايات المتحدة في الشرق الاوسط.
يبدو من خلال ذلك أنت تركز على البعد الشخصي لصانع القرار؟
البعد الشخصي هو جانب من الجوانب، إذ يركز علم التحليل السياسي الحديث على ضرورة دراسة الظاهرة الدولية، من جميع جوانبها المعرفية، بدءاً من دراسة شخصية صانع القرار، ببعديها السيكولوجي والايديولوجي ( العامل النفسي)، وتأثيرالبنية الداخلية وضغوطاتها السياسية ( العامل الداخلي)،وموقع الدولة في النظام الدولي(البعد الخارجي)، في إطار واقعية العلاقات الدولية، القائمة على القوة والدبلوماسية والمصلحة.
ما الأسباب التي دفعتك لربط سياسة هنري كيسنجر بالقانون الدولي العام ؟
إنّ الإجابة على هذا السؤال تعيدنا إلى تاريخ كيسنجر الدبلوماسي، حيث جمع في أعقد المراحل التي مرّتْ بها السياسة الخارجية الأمريكية، بين مهام مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي ووزير الخارجية، مما ساعده على الاستحواذ بمهمتي التخطيط الاستراتيجي والدبلوماسية. لذلك قام كيسنجر بشكل شخصي بدور المفاوض، الذي نجح– دون غيره –في الاعتماد والاستفادة من قواعد القانون الدولي، وتدوين سياسته الخارجية بمجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، سواء في إطار دبلوماسية الوفاق الدولي مع الاتحاد السوفياتي،التي تمخض عنها الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات والقرارات الدولية، أو في إطار سياسته في الشرق الأوسط، وإدارته للصراع الإسرائيلي العربي، بما عُرف بـ” دبلوماسية الخطوة خطوة “، التي تمخضتْ عنها مجموعة من الالتزامات والتعهدات والاتفاقيات والقرارات الدولية، التي قام بتدوينها أيضاً، في إطار مبادئ وقواعد القانون الدولي العام، مما وضع الإدارات الأمريكية اللاحقة، أمام استراتيجية ثابتة، لا قِبَلَ لهم بتغييرها.
في أحد مقالتك قلت أن هنري كيسنجر لم يكن واقعياً تقليدياً على طريقة روزفلت، ولم يكن مثالياً على طريقة ويلسون، وأن واقعيته السياسية لها طابعاً مختلفاً وخاصاً بحيث لايمكن تصنيفها بين المدرسة المثالية أو الواقعية التقليدية. ما الذي تريد قوله في ذلك؟
يعد الدكتور هنري كيسنجر شخصية وضعت العمل الأكاديمي والتكنوقراط في مقدمة آليات بناء الدولة داخلياً وخارجياً، وبذلك اعتبر كيسنجر فلسفة جديدة أعادت تصحيح مسار الدبلوماسية الأمريكية و العلاقات الدولية، وسياسة ابتعدتْ عن المثالية الشديدة، كما ابتعدتْ عن الواقعية المتناهية.لقد تأسست سياسة هنري كيسنجر على مبدأ التوفيق بين القوة والدبلوماسية مع الحفاظ على استقرار النظام الدولي، فهو لم يكن واقعياً تقليدياً بالاعتماد على مبدأ القوة في العلاقات الدولية كما فعل روزفلت، كما لم يكن مثالياً كويلسون الذي كان يركز على دور المنظمات الدولية وعصبة الأمم آنذاك. لذلك اشتغل على فكرة استقرار النظام الدولي، لأن عدم استقرار النظام الدولي خصوصاً في الشرق الأوسط قد يؤدي إلى زوال إسرائيل، أقصد هنا في حال اندلاع مواجهة فعلية ومباشرة بين الشرق والغرب، أو في حال تحول آسيا إلى تكتل صديق. لذلك اشتغل كيسنجر على تحييد الايديولوجيا الثورية الشيوعية، من خلال دبلوماسية الوفاق الدولي، التي استطاع من خلالها في إدخال الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية إلى حظيرة النظام الدولي؛ للمشاركة في استقرار هذا النظام بدلاً من تهديده، مما ساعد الولايات المتحدة في تقييد النفوذ السوفياتي في الشرق الأوسط، ظهر ذلك بشكلٍ واضحٍ، من خلال الدور الذي لعبه في إدارة الصراع الإسرائيلي العربي، وإبعاد العملاق السوفياتي عن عملية التسوية، كما نجح كيسنجر في تحييد القوة العربية وتفكيك النظام الإقليمي العربي بعد معاهدة كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر التي كان مهندسها بحرفية التاجر اليهودي الهارب من النازية في إصرار واضح منه إلى تقييد وتحييد النظام الإقليمي العربي لضمان أمن وحماية إسرائيل من خلال دبلوماسية المكوك والخطوة خطوة.
اكتسب كيسنجر العديد من الألقاب التي لم يعهدها سياسي معاصر من قبل؛ فسمي مهندس السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وثعلب السياسة الخارجية، وصاحب القوة العارية من الأخلاق، والأسطورة، والساحر، ودبلوماسي العصر ومترنيخ القرن العشرين، وغيرها من الألقاب. برأيك وبالعودة إلى أطروحتك في الدكتوراه، أين تضع هذه الألقاب في إطارها الأكاديمي؟
برأيي؛ البحث العلمي لايتناول ذلك بالطريقة التي تتناولتها الأخبار أو المقالات الصحفية، لأن العمل الأكاديمي شاق ويحتاج إلى صبر ورؤية وبحث واكتشاف ونفي وإثبات بموضوعية. لذلك لايمكن تتبع خطوات كيسنجر – كمهندس لإدارة الصراع في الشرق الأوسط – في إطار حوادث تاريخية بشكل منفرد ووصفي، أو بشكلِ سيرةٍ ذاتيةٍ، تُمجده تارةً، وتلعنه تارة ًأخرى، بقدر ماحاولت أنْ أضفي على الدراسة طابع التحليل العلمي، بدءاًمن تحليل بنية السياسة الأمريكية، وفكرته الخاصة في مفهوم قيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي عبر النفوذ لا السيطرة أو القوة وحدها. لهذا اشتغل كيسنجر على تبيان وعرض الأسباب التي ساعدتْ في قبول تصوراته، التي استطاع أنْ يطبقها على أرض الواقع، ويواكب تحولاتها الديناميكية، ويُكحل بها عينيه منذ توليه السلطة سنة 1969.
تقترن سياسة هنري كيسنجر بالشرق الأوسط، وقد ارتبطت سياسته بـ ” دبلوماسية الخطوة خطوة” و ” المكوك” بالشرق الأوسط، مالدور الذي لعبه كيسنجر في منطقة الشرق الأوسط من خلال هذه السياسة؟
أخذ كيسنجر على عاتقه التعامل مع الشرق الاوسط في سياقات تبدو لأي سياسي تقليدي بأنها منفصلة كخطوة ولكنها مترابطة في خطوات لايدركها سواه في نهاية المطاف. لذلك كان يعطي للعرب وعوداً بأنه سيكون صادقاً في التسوية ولكنه لايضمن نتائجها. وقد ركزت في الاطروحة على تحليل تصرفاته بالاستناد إلى علم تحليل الشخصية أي البعد السيكولوجي له كلاجئ يهودي هارب من الاضطهاد في ألمانيا. وعلى هذا الأساس كان كيسنجر لايعنية الشرق الأوسط المعروف بجغرافيته التقليدية، لذلك عندما يتحدث عن الشرق الأوسط إنما يقصد الدول العربية فقط، وبالأدق الدول العربية التي خاضت حرب 1948. باختصار: كان يقصد العرب بالتحديد، وقضية كيسنجر كانت تتركز عند العرب، ولأنه متخصص بمعنى التاريخ وكانت رسالته في الدكتوراه حول معنى التاريخ، لهذا كان يدرك السياقات التاريخية للحضارة العربية وتجلياتها عبر التاريخ، ولهذا أخذ على عاتقه عدم التعامل مع العرب كوحدة تفاوضية، وإنما كان يتعامل يتعامل مع كل دولة عربية بانفراد، كمقدمة لتفكيك النظام الإقليمي العربي بدءاً من جر مصر إلى التفاوض منذ اليوم الثاني لحرب أكتوبر قبل أن ينجح في استخدام دبلوماسية التوفيق بين القوة والدبلوماسية التي أدت إلى اتفاقيات كامبد ديفيد.
حول ماتفضلت به حول تفكيك النظام الإقليمي العربي ماهي الخطوات التي اتبعها كيسنجر في ذلك ؟
أدرك كيسنجر التماسك الروحي والتاريخي والعقائدي والإثني والجغرافي للعرب؛ بعد اتخاذهم قرار حرب 1973، فتأكد له عدم جدوى القوة العسكرية التقليدية، وسياسة التوسع الإسرائيلي. وهو ما اكدته هزيمة 1967، التي شكلتْ رصيداً روحياً ومعنوياً لإعادة رص صفوف النظام العربي الذي أبدى تماسكاً واصراراً على وحدة المصير العربي، ولعل اجتماع قمة الخرطوم الذي دعتْ إليه القيادة المصرية حينذاك، دليلاً على إصرار العرب على وحدتهم، وتدارس ما حدث لها في مواجهة الهزيمة .كانت هذه الأخبار قاسية على كيسنجر بالرغم من هزيمة العرب، لذلك أخذ على عاتقه إعادة ترتيب موازين القوى داخل النظام العربي، وعلى وجه الخصوص العلاقة بين القوة العسكرية والبشرية في مصر، والقوة النفطية في السعودية، والنظر في الآثار السياسية والاقتصادية لتحديد ما هية العلاقة بين هذين البلدين داخل النظام العربي . لا سيما وأنّ كيسنجر بعد حرب تشرين، بدأ يتفهم أكثر الدور الذي يلعبه النفط العربي في الاقتصاد العالمي، خصوصاً مع تغيّر الإسلوب السعودي تغيراً جوهرياً، في طريقة تعاطيه مع القضايا العربية والانخراط في صلب التفاعلات السياسية، التي أصبحتْ تتطلب من المملكة موقفاً واضحاً في هويتها الإسلامية و العربية، مما دفعها لتغيير سياستها بالرغم من علاقتها مع الولايات المتحدة.
لذلك اعتبر كيسنجر، أنّ العلاقات المصرية الأمريكية، هي نقطة البداية في مسار عجلة السياسة الخارجية الامريكية في المنطقة العربية، كما بدأ يُدرك مركزية سورية في الصراع التي تتمتع برصيد جماهيري تاريخي في المواجهة مع إسرائيل، لذلك بدأ بتطبيق سياسته التي تقوم على تفكيك النظام الإقليمي العربي والعمل بدبلوماسية ” الاستقرار النسبي بديل السلام”.
خلال تلك الفترة كانت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على أشدها. أين موقف الاتحاد السوفياتي حينذاك من هذه الأحداث ؟
كان حجر الأساس في التفكير الاستراتيجي لكيسنجر هو إبعاد السوفيات عن العملية السياسية في الشرق الأوسط؛ وذلك من خلال التعامل مع أطراف الصراع بشكل مباشر، وهو ما يفسر زياراته الشخصية المتكررة في المنطقة ( دبلوماسية المكوك)، وما تخفيه من مفاوضات سرّية كان الاتحاد السوفياتي بمنأى عنها، لا سيما وأنّ بعض الأطراف الأساسية في الصراع لم تكن متحمسة لأنْ يلعب الاتحاد السوفياتي دوراً في العملية الدبلوماسية، خصوصاً السياسة الأردنية التي كانت تفضل منذ أحداث أيلول 1971، التعامل مع الولايات المتحدة بديلاً عن السوفيات؛ وسياسة السادات الذي كان مندفعاً للعب دور الورقة الأمريكية بعد خلافه مع الاتحاد السوفياتي. وعلى هذا الأساس، بدأتْ المواجهة العربية الإسرائيلية، تدخل مرحلة جديدة من الصراع، في تبلور واضح لتشتت الإرادات العربية، التي بدأت تخرج بإرادتها عن مفهوم التسوية الشاملة، مع فقدان النظام العربي لشرعيته كقوة إقليمية، مما سهّل لكيسنجر تشتيت عملية التفاوض، وتجزئتهاعلى دفعات وبشكل منفرد بين إسرائيل والدول العربية، من خلال علاقات سلمية، شكلت نهاية للحاجر السيكولوجي بين العرب و إسرائيل. ترافق ذلك مع تفوق إسرائيلي واضح في الإمكانيات العسكرية، ساعدها على التوسع الاستيطاني، الذي أصبح أيضاً قوة إضافية لإسرائيل في التفاوض. وهكذا فقد النظام العربي أهم مقوماته، مما شكل ضربة قاصمة لشرعية هذا النظام كقوة إقليمية بدأتْ تتلاشى لصالح قوى إقليمية أخرى مثل إيران التي ظهرت في الفترة ذاتها تأخذ دوراً ريادياً وتدخلياَ في الدول العربية منذ وصول نظام الملالي إلى السلطة في إيران 1979.
من خلال حديثك يبدو كيسنجر أنه يبحث عن حلفاء استراتيجين في الشرق الأوسط، إلا أنه في الوقت ذاته كان يعمل على دبلوماسية الوفاق الدولي في إطار هذه الثنائية ألا تلاحظ هنا أن كيسنجر يعمل على نوع من تعدد الأقطاب وهذا يتعارض مع استراتيجيته التي تعمل على التفوق الأمريكي في قيادة العالم؟
هذا السؤال مهم وجوهري، فكيسنجر كان يدرك أنّ البقاء الأمريكي في القمة أمراً مستحيلاً، وماعليه إلا أنْ يعيد ترتيب أولويات السياسة الأمريكية من خلال النفوذ وترشيد القوة الأمريكية كما أسلفت، لذلك اشتغل كيسنجر على تقوية حلفاء الولايات المتحدة الاستراتيجيين من جهة، وإدخال القوى التي تهدد استقرار النظام الدولي للمشاركة في هذا النظام بدلاً عن تهديده. لذلك عمل كيسنجر على نقل النظام الدولي من طابع الثنائية القطبية بشكلة التقليدي، والذي استنزف السياسة الأمريكية، إلى الاستقطاب متعدد الأطراف الذي توجهه السياسة الأمريكية، وبالتالي تحقيق الاستقرار الدولي عن طريق تقاسم المسؤوليات الدولية بما يصب في نهاية المطاف في حماية وأمن إسرائيل. وبالتالي ركز كيسنجر على فكرة الاستقرار في الشرق الأوسط ( المنطقة العربية) كهدف نهائي، قياساً بهدفه التكتيكي أو المرحلي في العلاقة مع القوى العظمى، الذي يأخذ طابع المشاركة وتقاسم النفوذ بين الولايات المتحدة والقوى العظمى ( الاتحاد السوفياتي و الصين )، بينما يأخذ طابع إطالة أمد الصراع في منطقة الشرق الأوسط، كغاية قصد منها أنْ يكون استقراراً لصالح إسرائيل، وفرصة لمتابعة الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث أنه لم يخرج في جميع مراحله عن هذه الاستراتيجية، التي اشتغلتْ على استنزاف هذه المنطقة، وإبقائها كمنطقة متفجرة وغير مستقرة سياساً واقتصادياً، وهو مافتح الباب لكيسنجر في تطبيق سياسته التي تقوم على إدارة الصراع وليس حله التي أصبحت نهجاً أستراتيجياً أمريكياً.
دعنا نتناول موقف هنري كيسنجر من الحرب في سورية، وكيف تعامل معها ، وماذا نصح الإدارات الأمريكية في هذا الخصوص. ولماذا وصلت سورية دون غيرها إلى هذا الحال الكارثي؟
كتب كيسنجر في إحدى مقالاته بداية الحدث السوري وبالتحديد في 2012 أن سورية هي القوة الروحية كمركز للإسلام المعتدل، وموطن للديانة المسيحية بثقافتها العروبية الشرقية الذي تعتز به جميع الطوائف المسيحية في سورية. كما أبدى استغرابه – في المقالة ذاتها – من الشعب السوري وقدرته على العيش المشترك في بلدٍ يضم أكثر من أربعين طائفة وإثنية ومع ذلك لم يشهد اقتتالاً داخلياً منذ فجر التاريخ.
عندما اندلعت المظاهرات في سورية عاد كيسنجر إلى واجهة الصحف ووسائل الإعلام، التي تناولتْ آراؤه ونصائحه للساسة الأمريكان حول آليات التعامل مع الحالة السورية، فقد نشرتْ له صحيفة الواشنطن بوست بداية الأحداث في سورية مقالة مطوّلة، كتب فيها: ” أنّه على الرغم من أنّ للولايات المتحدة، أسباباً استراتيجية وكذلك إنسانية، لتفضيل انهيار بشار الأسد .. فمن الأفضل لواشنطن البقاء بعيدة، لأنّ أي تدخل في سورية يعرض النظام الدولي لمخاطر الاهتزاز “. وعليه عندما دخلت الحالة السورية أتون الصراع المسلح وبشعارات دينية وطائفية إقليمياً ( تركيا وإيران) وداخلياً بين القوى السورية ( النظام والمعارضة). اعتبر كيسنجر أنه لامجال لتدخل الولايات المتحدة عسكرياً في خضم صراع طائفي أزاح مبادئ وستفاليا الذي أسس لمفهوم الدولة وللعلاقات بين الدول، و أن القوى المحلية متكافئة في الصراع الدائر في سورية ( وهنا يقصد داعمي المعارضة من جهة وداعمي النظام السوري من جهة أخرى)، لذلك اعتبر كيسنجرأن التدخل العسكري الأمريكي في سورية أمراً في غاية الصعوبة، وهو ماحصل بالفعل إذ اكتفت الولايات المتحدة بتطبيق استراتيجية كيسنجر بإدارة الصراع دون أن تتدخل في حله. لذلك دعا كيسنجر بداية العام 2013 وفي ندوة أقامتها جامعة ميشيغان، إلى ضرورة تقسيم سورية، كحل لإنهاء الصراع، وعلى طريقته الواقعية ناقض نفسه بالقول “أن أفضل نتيجة ممكنة هي بلقنة وتجزئة سورية، وأنّ الوحدة الوطنية فيها مصطنعة، وأنّ سورية تقوم على قبائل مختلفة ومجموعات إثنية.
أما الشق الثاني من سؤالك، لماذا وصلت سورية دون غيرها إلى هذا الوضع الكارثي، فحسب رأيي المتواضع أن ماحصل في سورية سببه إبعاد سورية أو الابتعاد عن الهوية السياسية لسورية، فسورية قوة مضافة ببعدها العربي وخصماً على نفسها إذا عملت منفردة.
قرأت لكم مقالة منذ عشر سنوات تتكلم فيها عن الانكفاء الأمريكي عن الثورات العربية وترك الأدوار للقوى الإقليمية. برأيك هل تعاملت الولايات المتحدة الامريكية مع ثورات الربيع العربي في هذا الإطار. وقلت في أحد مؤلفاتك ” أن المنطقة العربية ستكون على فوهة بركان من الصراعات الداخلية بأبعاد مذهبية، سنية تقودها تركيا، وشيعية تقودها إيران.
ماهي رؤية هنري كيسنجر في تعامله مع ثورات الربيع العربي. وهل مازالت الولايات المتحدة تسير في استراتيجيته؟
لقد أسس كيسنجر لتحول ديناميكي جديد وثابت في الاستراتيجية الأمريكية، بل و وقام بتثبيت هويتها السياسية، ونصح الرؤوساء الأمريكيين بالانكفاء عن الشرق الأوسط وترك القوى المحلية ( المتكافئة والمتنافسة) تحل مشاكلها بنفسها. لقد جعل كيسنجر من السياسات الأمريكية المتعاقبة لا تتغير بتغير الرؤساء الأمريكيين سواء على صعيد تحديد عوامل القوة داخل المجتمع الأمريكي، وذلك بتنظيم اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة، أو على صعيد إخراج الشرق الأوسط من الدبلوماسية الوستفالية ( مفهوم الدولة لصالح المذهبية)، لذلك لاحظنا أن جميع الثورات التي اندلعت في المنطقة العربية كانت ارتداداً للصراع التركي الإيراني على المنطقة، الأمر الذي وضع هذه المنطقة على فوهة بركان من الصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية.
أما بالنسبة للشق الثاني من سؤالك وهل مازالت الولايات المتحدة تسير بسياسة كيسنجر، فالولايات المتحدة ختى هذه اللحظة مازالت تسير باستراتيجة كيسنجر كهوية سياسية، وصحيح أن هنري كيسنجر استطاع الإمساك بالعديد من المفاتيح التي اهلته بأن يلعب دوراً في صناعة القرار الأمريكي وإعادة بناء النظام الدولي وخصوصاً في الشرق الأوسط، بالاستفادة من معنى التاريخ في أوروبا، إلا أنه وباعترافه نجح في ما اسماه ” تأخير الانحدار الأمريكي” بآليات وأدوات بسيطة تقوم على الفكرة والتنظيم والهدف، وبالتالي فهو لا يشبه إلا لاعب القمار الماهر، الذي يمسك بأوراق اللعبة متحيناً أخطاء الأخرين، مستفيداً من عقلية وثقافة المغامرة، التي تأسس عليها العقل السياسي الأمريكي، إلى الحد الذي وصلتْ معه اليوم إلى تبني دبلوماسية التراجع والإنكفاء، وربما التفكير بالتخلي عن قيادة النظام الدولي، كفكرة تعود في جذورها إلى أدبيات الثورة الأمريكية.
ختاماً، هل تعتقد بأن هناك نور في نهاية النفق؟
بالتأكيد، وأنا هنا انطلق من حقيقة علمية فالتاريخ ليس مجرد واقعة حدثت في الماضي، وإنما هو حدس ومعنى للمستقبل. وهذه المنطقة وأهلها كانت على مر التاريخ حاضنة للحضارات التي قدمت للإنسانية العلوم والقيم الإنسانية والتسامح، وانهزمت أمامها أعتى قوى الظلم، وهي مازالت تتمسك بقوى روحية ومادية كوحدة المصير واللغة والتاريخ والآلام والآمال. وما علينا إلا أن ننطلق من هذه الأساسيات وتجاوز نوازعنا الشخصية وفي مقدمة ذلك نوازع السيطرة والسلطة. أما عن كيسنجر والألقاب التي حصل عليها فهو ماكان ليحصل عليها لولا ضعفنا وتفرقنا، والأمم الحية تهرم وتمرض ولكنها لاتموت.
د. محمد خالد الشاكر في سطور:
باحث وأكاديمي سوري مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، ولد في مدينة الميادين/ سورية 1967 وحصل فيها على الشهادة الثانوية. تخرج من كلية الحقوق جامعة دمشق وأوفدته وزارة التعليم العالي في سورية في العام 2005 لدراسة الدكتوراه في الجامعة اللبنانية الحكومية فحصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون العام –DESS – M1، ثم حصل على درجة DEA -M2الماجستير في القانون الدولي العام، عنوان الرسالة ” مجلس الأمن الدولي وحفظ السلم والأمن الدوليين قبل وبعد انتهاء الحرب الباردة- دراسة مقارنة، ثم حصل على درجة دكتوراة دولة في الحقوقPHD، تخصص دقيق في القانون الدولي العام والسياسة الخارجية. عمل الشاكر محاضراً للقانون الدولي والعلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعات السورية. كما عمل باحثاً رئيسياً في العديد من مراكز البحوث العربية والأجنبية، وعمل في العديد من وسائل الإعلام اللبنانية والعربية، وشغل مديراً لفرع مؤسسة الوحدة للطباعة والنشر ورئيساً لتحرير صحيفة الفرات السورية.
صدر له العشرات من الكتب نذكر منها: صناعة القرار الدولي – جدلية العلاقة بين واقعية العلاقات الدولية ومبادئ القانون الدولي العام – وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب2010 / الأمن الخليجي والجزر الإماراتية المحتلة – وجهة نظر قانونية2013 / الدستور السوري: خيارات ومقاربات، دارميسلون 2018/ الخليج العربي والإسلام السياسي الصفوي 2017/ أوهام الربيع العربي 2018/ حقوق المرأة في إطار الموائمة مع اتفاقية CEDW إصدارات المبادرة الأمريكية الشرق أوسطية باللغتين العربية والإنكليزية 2019/ حقوق عمال المنازل، إصدارات الجمعية الكوينية لحقوق الإنسان والوكالة السويسرية للتنمية والتعاون. أصدر ثلاثة دواوين شعرية، (حشرجات مدينة لاتموت – دمشق 1996 – رسائل سعيد بن جبير ط1 دمشق 1999- ط2 دار اليازجي – دمشق 2005 – بغداد والمدن الرتيبة –دمشق – دار اليازجي 2005.
حاوره/ مصطفى عمارة