الدور الأميركي بين الأقوال والأفعال
د. سنية الحسيني
للمرة الخامسة منذ بدء العدوان على غزة، قام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بجولة جديدة في الشرق الأوسط، مطلع الشهر الجاري، وسط مساعي معلنة للتوصل إلى هدنة. ولا يبدو أن هناك جديداً في هذه الزيارة في إطار الموقف الأميركي من العدوان الاسرائيلي على غزة، إذ واجهت الولايات المتحدة العالم سياسياً ودبلوماسياً لحماية إسرائيل، ودعمتها مالياً وعسكرياً، للصمود في عدوانها على غزة، ولردع القوى الإقليمية عن التصدي لها، وقوّضت أي مبادرة لوقف إطلاق النار، في تطابق أهدافها مع أهداف إسرائيل، والمتمثلة بضرورة القضاء على حركة حماس، والسيطرة أمنياً على غزة، وهو الأمر الذي لم يتغير حتى الآن.
قد يكون الجديد في هذه الزيارة، في أنها جاءت في أعقاب تنفيذ الولايات المتحدة ضربات إنتقامية ضد فصائل مرتبطة بإيران في العراق وسوريا، وضربات أمريكية بريطانية أخرى في اليمن، وهو أحدث تصعيد للنزاع الذي سعى بايدن منذ البداية لتجنبه. وتوصف ردود الولايات المتحدة بالمحدودة، على الهجمات التي جاءت ضد قواتها في العراق وسوريا، كما قابلت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر بالاكتفاء بصدها أي بالنار مقابل النار، طوال الأشهر الأربعة الأولى من العدوان على غزة. إلا أن قرارها بقصف الحوثيين في اليمن، والرد العنيف على الهجمات الأخيرة في سوريا والعراق، يعد مرحلة جديدة من التصعيد في المنطقة.
لم تخف إسرائيل رغبتها في جر المنطقة لصراع أكثر اتساعاً، تعلم أن حليفتها الأميركية ستنخرط فيه ولن تتركها وحدها، وهو الأمر الذي بدا جلياً خلال العدوان على غزة، والتجارب الماضية. ويضمن استمرار العدوان على غزة والتوترات في المنطقة بقاء حكومة نتنياهو على رأس السلطة، في ظل تناقضات المشهد الإسرائيلي الداخلي. لم تخرج حادثة قتل ما لا يقل عن ١٠٠ شخص في إنفجار في إيران خلال إحياء ذكرى إغتيال سليماني، واغتيال القيادي في حركة حماس صالح العاروري داخل معقل حزب الله في الضاحية الجنوبية في بيروت، واستهداف جنرال إيراني في سوريا، عن هدف إسرائيل بإشعال المنطقة. ونجحت إسرائيل بالفعل في ذلك، بعد الهجمات الانتقامية المتبادلة في المنطقة.
التزم بايدن باعتماد خطاب حذر خلال العدوان الإسرائيل على غزة، حيث أكد على دعمه غير المحدود لإسرائيل وشاركها الغضب إزاء هجمات الـسابع من أكتوبر، بينما نصح نتنياهو بضبط النفس، منتقداً بين الحين والآخر القصف “العشوائي” الإسرائيلي على المدنيين الغزيين. واعتبر مراقبون أن تصريحات بايدن قبل أيام تعكس خلافاً بين الإدارة ونتنياهو، فقد وصف بايدن رد جيش الاحتلال في غزة بأنه فاق الحدود المقبولة، وشدد على صعوبة حال المدنيين في غزة، الذين يموتون ويتضورون جوعاً. وفرضت الإدارة عقوبات قبل أيام على مستوطنين في الضفة الغربية، وصرحت بأنها تدرس إمكانية فرض مثل تلك العقوبات على عدد من جنود وقيادات الاحتلال في الضفة الغربية. إلا أن أفعال الولايات المتحدة تختلف عن الأقوال عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فتعكس تلك الأفعال استمرار سياستها وعدم حدوث أي تغير جوهري فيها.
فعلياً، تتبنى الولايات المتحدة موقف إسرائيل وتدافع عنه؛ فبدل أن تفرض عقوبات على الاحتلال، الذي يرعى المستوطنين ويحميهم، تكتفي بالتهديد بفرض عقوبات على المستوطنين؛ وبدل أن توقف ارسال السلاح لإسرائيل، التي قتلت وجرحت عشرات الآلاف من المدنيين، تدعوها لتجنب استهدافهم؛ وبدل أن تدعو لوقف العدوان على غزة، تدعم موقف إسرائيل بالسعي لتحقيق هدنة مؤقته؛ وتركز باستمرار على ضرورة إطلاق سراح المحتجزين والأسرى الإسرائيليين، دون أي إشارة للمعتقلين والأسرى الفلسطينيين، الذي اختطف واعتقل الاحتلال نصفهم تقريباً خلال فترة العدوان الأخير، ويقبع مئات من النصف الآخر وراء قضبان سجون الاحتلال منذ عشرات السنين.
ولا يختلف موقف الولايات المتحدة تجاه إعلان إسرائيل نيتها اجتياح رفح عن موقفها السابق خلال فترة العدوان. أكد مكتب نتنياهو بأن تحقيق أهداف الحرب يرتبط بالقضاء على مقاتلي حماس في رفح، الأمر الذي يعني ضرورة إجلاء المدنيين منها. وردت الإدارة الأميركية على ذلك بأنها لن تدعم الهجوم على رفح، إذا جاء من دون تخطيط مناسب، مع تشديدها على ضرورة مراعاة المدنيين. ولا تختلف تلك التصريحات الأميركية الأخيرة حوّل احتياج رفح عن مثيلاتها السابقة، التي لا تعارض فعلياً تواصل العدوان.
ومن القضايا الجديدة التي جاءت في إطار زيارة بلينكن الأخيرة أيضاً طلبه من وزارة الخارجية بإجراء مراجعة حول الاعتراف بدولة فلسطينية بعد انتهاء العدوان على غزة. وبات هناك حديث حول إمكانية إعتراف إدارة بايدن بدولة فلسطينية منزوعة السلاح كخطوة أولى في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، بدلاً من أن تكون الخطوة الأخيرة. وجاءت فكرة الدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح من خلال اقتراحات وضعتها إسرائيل بعد توقيع إتفاق أوسلو، وتطرق اليها نتنياهو أكثر من مرة، ما بين عامي ٢٠٠٩ و٢٠١٥، قبل أن يتجنب الإشارة اليها بعد ذلك، فقد بات يكتفي بالتركيز على ضرورة إحكام السيطرة الأمنية على كامل الأراضي المحتلة.
يمثل طرح فكرة الاعتراف الأميركي بالدولة الفلسطينية تحولاً واضحاً في موقف واشنطن. فرغم أن واشنطن طالما نادت بحل الدولتين، إلا أنها رفضت الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بحجة أنها تتحقق فقط من خلال المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. يأتي ذلك على الرغم من عجز الولايات المتحدة عن اقناع أو إرغام إسرائيل على وقف الاستيطان، كما لم تنجح في إعادة الطرفين لطاولة المفاوضات. ورفضت إسرائيل الانخراط في أية مفاوضات جدية مع الفلسطينيين بعد الانتفاضة الثانية، وتحججت بعد الانقسام الفلسطيني، بعدم وجود شريك. وبالتوازي، جسدت إسرائيل من خلال مواصلة مشروعها الاستيطاني في الضفة الغربية بما فيها القدس واقعاً يجعل تحقيق الهدف الفلسطيني بإقامة الدولة فعلياً مستحيلاً.
باصرار، واصلت واشنطن، خلال سنوات أوسلو، مساعيها لتقويض حصول الفلسطينيين على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، على مستوى الدبلوماسية الثنائية والمتعددة. ولا تعترف معظم الدول الغربية بفلسطين، بينما يعترف بها ١٣٩ دولة أخرى من بين مجمل الـ ١٩٣ دولة في الأمم المتحدة، معظمها دول آسيوية وأفريقية ولاتينية، أي معظم دول العالم. وفي الأمم المتحدة، طالما عرقلت واشنطن الاعتراف بالدولة الفلسطينية بقوة الفيتو، الأمر الذي اضطر الفلسطينيين للذهاب للجمعية العامة في العام ٢٠١٢، للحصول على صفة الدولة غير العضو في المنظمة الدولية.
إلا أن ذلك الموقف الأميركي الجديد بدراسة إمكانية الاعتراف بالدولة الفلسطينية يمكن فهمه في إطار تطور آخر، جاء خلال فترة العدوان الإسرائيلي على غزة أيضاً، حيث ربطت واشنطن لأول مرة بين تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية وإنشاء مسار لإقامة دولة فلسطينية. جاء ذلك التحول في ظل عاملين، تعلق الأول بارتفاع الأصوات الدولية الرسمية المطالبة بحل القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، بينما ارتبط الثاني برفض السعودية قيام علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتوقف العدوان على غزة.
أن ذلك الربط الأميركي بين القضيتين، وفي هذا الوقت بالذات، يشكك في نوايا واشنطن، التي تبحث عن تحقيق التطبيع رغم استمرار العدوان. وعادة ما تلجأ الولايات المتحدة لطرح مشروع حل الدولتين على الفلسطينيين، عندما تتطلب سياستها الخارجية تفعيل الدبلوماسية في المنطقة أو خفض التوتر، وتنتهي كما العادة دون إحراز أي تقدم. واليوم تطرح واشنطن فكرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية ضمن ذات المعطيات. إن الإعلان الأميركي حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية يفتقر للواقعية، في ظل استمرار الاحتلال واصراره على مواصلة السيطرة الأمنية والتمدد الاستيطاني في الضفة الغربية، والعدوان وحصار غزة، وهو الأمر الذي يؤكد أن ذلك الإعلان يرتبط بتحقيق هدفها المتعلق بالتطبيع، ومواصلة مساعيها لفرض إسرائيل على دول المنطقة، وليس له علاقة بمستقبل القضية الفلسطينية.
لم تخرج دعوات واشنطن للسلطة الفلسطينية بضرورة إصلاحها أو “تنشيطها” عن ذلك السياق، وهو ما يتم تداوله حالياً في الأراضي المحتلة، استعداداً لمرحلة ما بعد إنتهاء العدوان على غزة. يأتي ذلك على الرغم من رفض نتنياهو الفكرة الأميركية، حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فأكد أن الدولة الفلسطينية تتعارض مع حاجة إسرائيل للأمن، وأنه يجب أن يكون لإسرائيل سيطرة أمنية على كامل الأراضي.
خلاصة القول، بغض النظر عن تصريحات بايدن وإدارته المتذبذبة وأحياناً المتخبطة منذ بداية العدوان، ليس من الصعب تحديد حقيقة الموقف الأميركي، الذي تعكسه قرارات إدارة بايدن وأفعالها. وتدعم الإدارة إسرائيل لتحقيق هدف العدوان المتمثل بالقضاء على حركة حماس، وبسط السيطرة الأمنية على غزة، إما من خلال مواصلة العدوان أو من خلال استسلام الحركة عبر صفقة سياسية، حيث تعكس شروط إسرائيل في مفاوضات صفقة التبادل ذلك.
كما تتفق الولايات المتحدة مع إسرائيل على إبقاء الوضع الفلسطيني بعد إنتهاء العدوان على حاله، مع إحداث تعديلات شكليه عليه، والمتمثلة بدعواتها لـ “تنشيط السلطة الفلسطينية”. وتركز الولايات المتحدة بقوة على تحقيق اختراق في مفاوضات التطبيع السعودي الإسرائيلي، وهو الأمر الذي جعلها تربط ذلك لأول مرة مع إمكانية الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ولا تخرج دعوات واشنطن بالاستعداد للنظر في الأعتراف بالدولة الفلسطينية، في ظل معطيات الاحتلال القائمة، عن تحقيق الهدف السابق، ولأغراض إعلامية عالمية، لتخدير الرأي العالمي والالتفاف على جرائم العدوان حالياً وعن محاسبة إسرائيل في أعقابه.