مفاوضات الخميس: هل تغيرت المعطيات؟
د. سنية الحسيني
بعد توقف مفاوضات وقف إطلاق النار وصفقة التبادل بين حكومة الاحتلال وحركة حماس خلال الأسابيع الأخيرة، في أعقاب اغتيال شكر وهنية وانتهاك الاحتلال للسيادة اللبنانية والإيرانية، والتي وقف خلالها الكيان المحتل بمجملة في حالة من الشلل في انتظار رد حزب الله وإيران، أو كما وصفها حسن نصر الله “على قدم ونصف”، تأتي اليوم، الخميس الموافق الخامس عشر من آب، المبادرة الثلاثية للوسطاء الأميركيين والقطريين والمصريين لاستئناف تلك المفاوضات، والتي فشلت في الوصول لأي إتفاق يذكر على مدار أشهر الحرب. فما هي المعطيات التي اختلفت عن تلك الموجودة، قد يكون من شأنها إحداث انفراجة من حالة الاحتقان الحالي في المنطقة؟
قد يكون من أهم تلك المعطيات المحفزة للدعوة لاستئناف المفاوضات اليوم، ارتباطها بتصاعد حدة التوتر والاحتقان في المنطقة، وانتظار كيان الاحتلال لرد حزب الله وإيران على انتهاكه لمعادلة الردع مع الحزب ولسيادة إيران، بارتكاب جريمتي إغتيال في عقر الدار اللبنانية والإيرانية. ففي سياق متصل، دعت فرنسا وألمانيا وبريطانيا، أو مجموعة الترويكا الأوروبية، طهران بضبط النفس فيما يتعلق بالرد على إسرائيل، ويجرى الحديث عن تدخل روسي لدى القيادة الإيرانية لخفض حدة الرد على إسرائيل، وعن مساعي واشنطن لإقناع تركيا بالتدخل أيضاً لدى القيادة الإيرانية لتحييد حدة ذلك الرد المنتظر. ويعني رد إيران هذه المرة، حتى ولو جاء في إطار الرد المنضبط، الدخول في دوامة الرد والرد المقابل، كما يحدث حالياً على الجبهة الجنوبية اللبنانية منذ عشرة أشهر، ولكن هذه المرة مع إيران أيضاً، الأمر الذي سيدخل المنطقة لمنعطف خطير، قد تفلت كوابحه في أي لحظة.
ورغم تأكيد المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامئني على قدوم الرد، ورفض وزارة الخارجية الإيرانية أي تدخلات أو نصائح خارجية بخصوص حدود ردها، جاءت الإستجابة الوحيدة من قبل إيران بإمكانية خفض أو تأجيل ذلك الرد على تطاول إسرائيل بحدوث اختراق في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة. قد يكون ذلك المعطى من أهم المعطيات التي يمكن وضعها بعين الاعتبار، والتي يمكن أن تمهد لحدوث اختراق في تلك المفاوضات، وهو ما ارتبط بالفعل بدعوة ذات الدول الغربية التي طلبت من إيران خفض التصعيد، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وإيطاليا، في بيان خماسي لوقف إطلاق النار في غزة بشكل متزامن.
وفي ظل الإعلان عن قرب وصول بلينكن للمنطقة، اعتبر بعض المنخرطين في المفاوضات من الإسرائيليين بأن مفاوضات اليوم تعد لقاء الفرصة الأخيرة، لإعادة المحتجزين من غزة أحياء، بينما أكد يوآف غالانت أن إسرائيل على مفترق طرق، فإما التسوية أو التصعيد. رغم أن المعادلة التي تضعها إيران لخفض التوتر في المنطقة، وتتعلق بربط حقها المشروع بالرد ووقف حرب الابادة على غزة ليست جديدة، فقد طرحها حزب الله من جنوب لبنان، والحوثيين من جنوب الوطن العربي، والجماعات العراقية المسلحة من غربه، فوقف حرب الابادة في غزة تعني تجميد التوتر في المنطقة بأسرها، إلا أن دخول إيران بشكل مباشر في معادلة الصراع مع إسرائيل يجعلها تدخل مرحلة مختلفة.
ويبقى موقف إسرائيل والولايات المتحدة من مفاوضات وقف إطلاق النار هذه المرة من أهم المعطيات المؤشرة على مدى إمكانية حدوث اختراق فيها. إلا أن التباينات في المواقف سواء تلك التي تتعلق بمواقف الولايات المتحدة نفسها، وبينها وبين إسرائيل تشير إلى عدم حدوث تبدل في مواقف الطرفين حتى الآن يسمح بحدوث الاختراق في تلك المفاوضات، رغم ارتباطها بالتوترات الإقليمية مع إيران هذه المرة. اعتبرت الولايات المتحدة أن اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة قد يمنع الحرب الإقليمية الموسعة، لذلك كانت وراء التحركات الأخيرة التي شهدناها لإحياء تلك المفاوضات في لحظات حرجة وحاسمة في ذات الوقت. ولا تخفي الولايات المتحدة عدم رغبتها في حدوث تلك الحرب، التي تجبر على الإنجرار اليها، بحكم علاقتها الخاصة جداً بإسرائيل.
إلا أن الولايات المتحدة والتي تسعى لإحياء مفاوضات اليوم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، رغبة في خفض التصعيد الإقليمي، في ظل تصريحات إيران الواضحة التي ربطت وقف إطلاق النار في غزة بخفض أو تأجيل تصعيدها ضد إسرائيل، سارعت على الناحية الأخرى لإحضار ونصب وتجهيز ترسانتها المسلحة الدفاعية والهجومية في المنطقة والتلويح بالقوة العسكرية لردع إيران عن توجيه ضربة لإسرائيل، دون أن نغفل مساعيها لإقناع جهات إقليمية ودولية أخرى للتدخل ودياً لدى إيران لثنيها عن توجيه ضربة لإسرائيل. فالولايات المتحدة لاتزال توجه سهامها للضغط لإخراج الصفقة بعيداً عن إسرائيل، وتبقى على دعمها الأعمى والمنحاز للاحتلال. ويبدو التباين واضحاً في سلوك الولايات المتحدة التي تسعى لتجنب حدوث حرب إقليمية، ولجأت لإحياء مفاوضات وقف أطلاق النار في غزة هذه المرة في سبيل ذلك، وفي نفس الوقت بدل أن تضغط على إسرائيل لتحقيق اختراق في تلك المفاوضات، تلوح بالقوة العسكرية لردع إيران. ويشهد الوسطاء المصريون والقطريون والمفاوضون الإسرائيليون أنفسهم، ومسؤولو الإدارة الأميركية أيضاً على أن نتنياهو هو المسؤول عن تعطيل تلك المفاوضات طوال المدة السابقة. ويبدو أنه من دون فرض ضغط أميركي حقيقي على نتنياهو وحكومته لإنجاز صفقة لوقف إطلاق النار في غزة لن يحدث الاختراق المطلوب لإخراج المنطقة من حالة التوتر المتصاعد، وهو أمر مشكوك به في ظل أداء الإدارة الأميركية الحالي.
ويظهر التباين جلياً بين موقف الولايات المتحدة وإسرائيل تجاه المفاوضات من خلال تحليل التصريحات، اذ تصفها الأولى بأنها تأتي لإنجاز صفقة لوقف إطلاق النار في غزة، بينما تعتبرها حكومة نتنياهو بأنها تنشد صفقة تبادل لإخراج المحتجزين من غزة. تشير تسريبات صحفية أن نتنياهو أضاف شروط جديدة لمفاوضات اليوم، كعادته في المفاوضات السابقة، وبعض النظر عن تلك الشروط، والتي كسابقاتها تسعى لضمان بقاء الاحتلال في غزة، وعدم انتهاء الحرب، وضمان إخراج أكبر عدد من الأحياء المحتجزين في غزة، وعدم منح حركة حماس إنجاز حقيقي مستدام، لا وجود لأي تغير في توجهات نتنياهو من المفاوضات واستمرار الحرب في غزة.
وقد يكون لتكليف حركة حماس يحيى السنوار بقيادتها، بعد تعينه كرئيس جديد لمكتبها السياسي، في أعقاب اغتيال الرئيس السابق إسماعيل هنية في طهران في الحادي والثلاثين من شهر تموز الماضي، من بين المعطيات التي قد تشير لنتائج مفاوضات اليوم أيضاً. فقد أجابت الحركة بتعينه عن موقفها اليوم، أي بعد عشرة أشهر من القتال والتصدى للاحتلال في غزة، خصوصاً وأن الإعلان عن تعينه جاء مصحوباً بوابل من الصواريخ المنطلقة من غزة تجاه أهداف العدو، بأنها تقف صلبة على الأرض ولن تستسلم ومستعدة لمواصلة القتال في رسالة تحدي واضحة، وتتشبث من خلالها بمواقفها التفاوضية مع قوة الاحتلال. وقد ترجم ذلك بالفعل عندما أعلنت الحركة للوسطاء، رغم إثارة الشكوك حول عدم مشاركتها في مفاوضات، اليوم، عدم رفضها المشاركة في المفاوضات، دون تحديد شكل تلك المشاركة، فوضع السنوار شرطه بضرورة وقف الأعمال العسكرية خلال المفاوضات، ودعا بيان الحركة الوسطاء لوضع خطة للمفاوضات تقوم على تنفيذ مقترحات بايدن التي وضعها نهاية شهر أيار الماضي، والتي ترجمت لقرار صدر من مجلس الأمن مطلع الشهر التالي. ولا يخرج إعلان أبو عبيدة الناطق العسكري باسم الحركة حول مقتل محتجزين في غزة على يد حراسهم، كرد عاطفي على الجرائم المرتكبة بحق المدنيين في غزة والأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال عن ذلك السياق المستحدث. ورغم ذلك لا تخفي الحركة رغبتها بوقف الحرب على غزة منذ اليوم، وكانت السبب في تحريك دفة المفاوضات أكثر من مرة، ولا تزال تعبر مواقفها وتصريحاتها عن ذلك دون مواربة، لكن ليس بأي ثمن.
يبدو أن نتنياهو لا يزال يرى في استمرار التوتر في المنطقة مخرجاً له لضمان استمرار بقائه في الحكم دون محاسبة، في ظل أحكام سيطرته على مفاتيح القرار في البلاد، وكذلك فرصة إستراتيجية لتحقيق أهداف عسكرية طال انتظارها. وصف آميت ياغور في مقال له في صحيفة معاريف العبرية أن شن حرب على إيران وحزب الله فرصة استراتيجية، معتبراً أن صفقة تبادل مع حماس وعدم الذهاب لحرب مع إيران وحزب الله يعني بقاء حماس في غزة واستمرار خطر حزب الله وإيران قائم، واعتبر أن الحرب الشاملة فرصة لاعادة تشكيل وترتيب وضع المنطقة لسنوات. وقد يبدو الأمر فعلاً فرصة إستراتجية حقيقية لنتنياهو خصوصاً إن توفرت الذراع التي ستضرب في هذه الحرب، في ظل عجز إسرائيل وحدها عن خوضها، فهل ستخضع الولايات المتحدة لمغامرة غير محسوبة تنسجها حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة والمتهورة، والتي ستدفع الولايات المتحدة ثمن نتائجها على حساب مصالحها.