حدود الرد الإسرائيلي على إيران
د. سنية الحسيني
بعد مرور عام كامل على شن هجومه المدمّر على غزة، وضربه الخاطف والخطير لقيادة حزب الله في لبنان، يعتقد البعض داخل كيان الاحتلال أن الفرصة باتت مناسبة لضرب إيران، وتحييد قدرتها النووية وتعطيل نضوجها. وطالما انتهجت إسرائيل سياسة مهاجمة المنشآت النووية لدول المنطقة في مراحل البناء قبل تشغيلها، فضربتها في العراق في العام 1981 وفي سورية في العام 2007، وسعت لذلك في إيران منذ عهد الرئيس الأميركي بوش الابن. منذ ذلك الوقت، سعت إسرائيل لإقناع الولايات المتحدة، التي تمتلك الأدوات التي تحسم الحرب وتحقق أهدافها، بشن حرب عسكرية مباشرة على إيران. واكتفت أميركا بدعم إسرائيل في حروب الظل مع إيران، التي تميزت بالهجمات السيبرانية والاغتيالات وحرب السفن. لم تخف الولايات المتحدة عداءها للنظام الإيراني، وعارضت علناً تطور برنامجها النووي، وانتقدت النظام الإيراني وحشدت ضده دولياً بحجة القدرات النووية وادعاءات بانتهاكات لحقوق الإنسان. ورغم ذلك لم ترغب الولايات المتحدة بشن حرب عسكرية مباشرة على إيران، لأسباب تتعلق بمصالحها وسياستها واستراتيجيتها في الشرق الأوسط، واكتفت بفرض عقوبات وحصار على إيران، وملاحقة البرنامج النووي الإيراني سياسياً ودبلوماسياً. بدأ التصدي الأميركي لطموحات إسرائيل بتوجيه ضربة كاسحة لإيران وبرنامجها النووي منذ عهد الرئيس جورج دبليو بوش، الذي لم يرفض فقط خوض حرب ضد إيران، بل رفض أيضاً الاستجابة لطلب إسرائيل بمدها بالقنابل الثقيلة اللازمة لحسم نتائج تلك الضربة. في العام 2008، رفض بوش طلب إسرائيل للحصول على القنابل الخارقة للتحصينات وطائرات اللازمة لنقلها. كما رفض الرئيس باراك أوباما ذلك التوجه الإسرائيلي بضرب إيران، وعلى العكس وقع مع إيران الاتفاق النووي في العام ٢٠١٥، ضد الرغبة والرضا الإسرائيلي. ورغم تناسق الأهداف والدعم اللامحدود للرئيس دونالد ترامب لإسرائيل، والذي ألغى مباشرة بعد صعوده للحكم الاتفاق النووي مع إيران، لم يقبل توجيه ضربه عسكريّة مباشرة لإيران أيضاً، ولم يمنح إسرائيل كذلك الأداة اللازمة لتحقيق ذلك بشكل مفرد.
في تخبّط معهود للإدارة الأميركية خلال الأزمة الحالية، تتناقض مجدداً تصريحاتها حول الضربة الإسرائيلية المحتملة لإيران، لتثبت مجدداً أن إسرائيل صاحبة الكلمة الفصل بحبك تطورات الأحداث في المنطقة، وتقبل بدور خدمي داعم ومساند لإسرائيل، بغض النظر عن مدى انسجام سياساتها مع المصالح الأميركية فيها، وإن انسجمت الأهداف الاستراتيجية. وفي سياق التصريحات الأميركية المتضاربة، أكدت الولايات المتحدة دعمها لرد إسرائيلي على إيران، كما دعمت البلدان الغربية المركزية ذلك، وتستمر الزيارات المتبادلة بين القيادات العسكرية من الصف الأول في البلدين. إلا أن الرئيس الأميركي جو بايدن حذر إسرائيل من استهداف المواقع النووية أو منشآت الطاقة، ودعا لرد «متناسب» مع الهجوم الإيراني الأخير على إسرائيل، وهو ما لخصه لويد أوستن وزير الدفاع الأميركي بأن «الولايات المتحدة تفضل تجنب تصعيد جديد مع إيران»، وحذر ويليام بيرنز مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من مخاطر «سوء التقدير». وأكد جيك سوليفان مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي أنه خلال المشاورات مع إسرائيل حول ردها العسكري على إيران، «أن مواقع عسكرية للحرس الثوري أو مراكز القيادة والسيطرة أو البنية التحتية للطاقة وموانئ ومصافي تصدير النفط، يمكن أن تنتج ردا مماثلا على إسرائيل»، الأمر الذي يعكس النية باحتواء حرب واسعة، وإبقائها ضمن الفعل ورد الفعل. على الجانب الآخر من تلك التصريحات، أكد أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي علم بلاده بأن «روسيا تقدم لإيران دعماً تقنياً في مجال التكنولوجيا النووية»، رغم عدم وجود دليل على تزود روسيا لإيران بالمعدات اللازمة لصنع رأس حربي نووي. كما تصاعدت تصريحات المسؤولين الأميركيين مؤخراً بأن إيران على عتبة إنتاج قنبلة نووية، فأكد بيرنز مؤخراً «إن إيران قد تحتاج لأسبوع فقط لإنتاج قنبلة نووية»، ورغم أن هذا النوع من التصريحات ليس جديداً، إلا أن توقيته وتزامنه يعكس تشجيعاً أميركياً لإسرائيل لضرب المنشآت النووية على وجه التحديد. ويعترف مسؤولون وخبراء أميركيون بارزون بأن الولايات المتحدة «لديها نفوذ محدود» على ما قد تقرر إسرائيل القيام به ضد إيران. ويؤكد مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية أن إسرائيل لم تطلع حليفتها الأميركية على تفاصيل الضربة المرتقبة لايران، كما لم تقدم ضمانات بشأن عدم استهدافها للمنشآت النووية. إن ذلك يستشرف أن الولايات المتحدة رغم عدم رغبتها بضرب المنشآت النووية الإيرانية وتوسيع دائرة الصراع في المنطقة، إلا أن موقفها لن يخرج عن مواقفها السابقة، بدعم إسرائيل ومساندتها بشكل مفتوح، حتى وإن تجاوزت الخطوط الحمراء الأميركية في ضربها لإيران.
وحذرت إيران الجميع من أن استهداف مشروعها النووي يشكل خطاً أحمر. ويبدو أن إسرائيل تعتبر ضرب القوة النووية الإيرانية فرصة نادرة تحقق أهدافاً طالما تطلعت إليها، لكن السؤال المهم هو هل تمتلك إسرائيل القدرة على حسم المعركة مع إيران؟ أكد نفتالي بينيت، رئيس الوزراء السابق أن «إسرائيل الآن أمام فرصة عظيمة لتغيير وجه الشرق الأوسط»، مؤكداً «ضرورة تدمير البرنامج النووي الإيراني ومنشآت الطاقة المركزية وضرب النظام ضربة مميتة»، معتبراً أن لدى إسرائيل «المبرر والأدوات، بعد أن شُلت أذرع إيران، وأصبحت مكشوفة وضعيفة». وأجرت إسرائيل قبل عامين مناورة عسكرية حلقت خلالها عشرات الطائرات المقاتلة لمسافات طويلة وتزودت بالوقود جواً وتدربت على ضرب أهداف بعيدة، تحاكي ضربة على المنشآت النووية الإيرانية. وعلى مدار 22 عاماً، كانت منشأة «نطنز» لتخصيب اليورانيوم، ومنشأة «فوردو» للطرد المركزي، محور اهتمام كل من إسرائيل وواشنطن. ومنذ عدة سنوات، ترصد الأقمار الاصطناعية الأميركية والإسرائيلية، حفر إيران لشبكة أنفاق ضخمة جنوب «نطنز»، يُعتقد أنها مركز تخصيب نووي. ونجحت القنابل الخارقة للتحصينات في اختراق أنفاق خزن فيها «حزب الله» صواريخه، كما نجحت في الوصول لمواقع محصنة لقيادة الحزب، ورغم ذلك من المشكوك فيه نجاحها المطلق بالوصول إلى المنشآت الإيرانية المحصنة عميقاً في جبال إيران. فاعتبر الجنرال فرانك ماكنزي القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية أن «الهدف النووي الإيراني صعب للغاية، لدينا قدرات خاصة تسمح لنا بالوصول إليه لا تمتلكها إسرائيل، بإمكانها بالتأكيد إلحاق الضرر به، ولكن نظراً لحجم وتعقيد ونطاق وكيفية توسيع البرنامج النووي على مدى السنوات الـ10 الماضية، فإنه هدف من الصعب القضاء عليه». ورغم ذلك قد تستغل إسرائيل الفرصة وتبدأ بضربات قوية ومدمرة لإيران على غير الرغبة الأميركية، لعلمها بعدم قدرة واشنطن التخلي عن إسرائيل، فقد أكد بايدن من قبل «لن نسمح بهزيمة إسرائيل»، خصوصاً في ظل عجز الإدارة الأميركية الحالية عن كبح جماح إسرائيل، كما كان في الماضي.
ويساعد العجز الدولي والعربي الرسمي في عدم القدرة على كبح جماح إسرائيل في استمراراها في تحقيق أهدافها الجهنمية والخطيرة للمنطقة. كما أن مواقف دول عظمى شريكة أو حليفة لإيران مثل روسيا والصين لا تشير إلى وجود نية للتصدي لإسرائيل إن قامت بتوجيه ضربة معقدة إيران. فرغم تنبيه السياسيين والمحللين الروس من الضرر الذي قد يلحق ببلادهم في حال ألحقت إسرائيل هزيمة استراتيجية بايران، حافظت الدبلوماسية الرسمية الروسية على موقف حذر من تطور الأحداث الحالية في المنطقة، ودعت جميع الأطراف لضبط النفس، محملة واشنطن مسؤولية تصاعد التوتر في الشرق الأوسط لدعمها المفتوح لإسرائيل. ورغم تهديد سابق لموسكو بتسليح خصوم الولايات المتحدة وحلفائها، على خلفية مواصلة واشنطن تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، إلا أن ليس هناك ما يشير إلى بيع روسيا لسلاح جوي وصاروخي دفاعي متقدم لإيران مؤخراً، ورغم عدم إخفاء إيران رغبتها في الحصول عليه، كالطائرات المقاتلة من طراز سوخوي-35، او النظام الدفاعي الصاروخي المتقدم إس ٤٠٠. والعكس هو الظاهر، اذ دعمت ايران عسكرياً روسيا خلال الحرب الدائرة في أوكرانيا. وتحتفظ روسيا بعلاقات مقبولة مع إسرائيل تضمن التنسيق بين الطرفين في سورية، وعدم إرسال إسرائيل الصواريخ الدفاعية لأوكرانيا، الأمر الذي يفسر حدود الدعم الروسي لإيران، رغم اتفاقيات التعاون الاستراتيجي الاقتصادي والعسكري والتنسيق الأمني بين البلدين. كما لا يخرج الموقف الصيني في دعم إيران عن الدعم السياسي والمعنوي، رغم الضرر الكبير الذي سيصيب الصين إن فقدت شريكها الاستراتيجي في مجال الطاقة، إلا أن المتتبع والعالم بسياسة الصين يعلم سلميّتها، وبراغماتيتها. إن جميع المعطيات السابقة تعني أننا أمام ضربة مفتوحة على جميع الخيارات.