تفويض شعبي لترامب وسنوات عجاف للفلسطينيين
د. سنية الحسيني
كشفت نتائج الانتخابات الأميركية عن تفويض شعبي واسع لدونالد ترامب المدان بعشرات القضايا المخلة بالأمانة والشرف، وهو ما يُعتبر سابقة في تاريخ الولايات المتحدة. فقد نجح ترامب باكتساح الأصوات الشعبية، كأول رئيس جمهوري يفوز بالتصويت الشعبي، بعد جورج بوش الابن مطلع الألفية الراهنة، بالإضافة إلى حصده لغالبية أصوات المجمع الانتخابي. وفاز ترامب في المجمع الانتخابي بـ ٣١٢ صوت مقابل ٢٢٦ لكامالا هاريس المرشحة الديمقراطية للرئاسة، كما حصد أكثر من ٧٥ مليوناً ونصف مليون صوت، مقابل ٧٢ مليوناً و٣٠٠ ألف صوت لهاريس في التصويت الشعبي. ونجح في الولايات السبع المتأرجحة، التي لها دور كبير في حسم نتائج الانتخابات في المجمع الانتخابي. كما تقدم في ولايات معروفة تاريخياً بولائها للديمقراطيين. وانتزع الجمهوريون الأغلبية في انتخابات مجلس الشيوخ، وبات لهم ٥٣ صوتاً مقابل ٤٥. كما فاز الجمهوريون في انتخابات مجلس النواب بـ ٢١٦ مقابل ٢.٧، وحصدوا أغلبية حكام الولايات بـ ٢٧ مقابل ٢٣. ولم يسبق أن أعيد انتخاب رئيس للولايات المتحدة بعد هزيمته في انتخابات سابقة منذ ١٣٠ عاماً، ويعد هو الحالة الثانية في تاريخ الولايات المتحدة، الذي يعاد انتخابه كرئيس بعد هزيمة سابقة. ولن يستطيع وفق تعديلات الدستور الترشح لولاية ثالثة بعد هذه الدورة الانتخابية.
ينال الجمهوريون في العادة دعم غالبية السكان البيض، الذين يشكلون الأغلبية، وإن انخفض عددهم لأول مرة عن ٦٠ في المائة من مجمل عدد السكان، بينما يدعم الديمقراطيون غالبية الملونين والنساء والأقليات واليهود، لكن في هذه الانتخابات صوت لترامب غالبية الرجال البيض ونسبة من الملونين أيضاً، وكذلك اليهود، وانقسم الصوت العربي والمسلم، ليصب ذلك في النهاية أيضاً لصالحه. وهناك عدد من الأسباب التي أنتجت هذا النصر الكاسح لترامب ولحزبه لعل أهمها السبب الاقتصادي. وتقع القضية الاقتصادية على رأس أولويات الناخب الأميركي، فقد اعتبر غالبية الأميركيين أن اقتصاد البلاد ساء خلال عهد الرئيس جو بايدن، وارتفعت أسعار السلع الرئيسية بشكل كبير، رغم الأرقام التي يستشهد بها الحزب الديمقراطي التي تشير إلى تحسن طفيف في الاقتصاد. وبينما لم تنجح هاريس في الخروج عن إرث بايدن، لم تطرح خططاً اقتصادية جذابة مقنعة للناخب الأميركي. في المقابل لم تكن مخططات ترامب الاقتصادية القائمة على خفض الضرائب وتوسيع المشاريع الصناعية والاستخراجية وتعظيم الاعتماد على الاقتصاد المحلي فقط، ما جذب الناخب لترامب، بل أيضاً ارثه الرئاسي السابق، فقد اعتبر عهده بأنه كان أفضل اقتصادياً من عهد بايدن. إن هذا يفسر السبب في تصويت أعداد متزايدة من الشباب الأميركي المتوسطي الدخل من أصول لاتينية وأفريقية لصالحه.
كما تُعتبر قضية المهاجرين غير الشرعيين القضية الثانية على قائمة أولويات الناخب الأميركي، والتي أولاها ترامب اهتماماً كبيراً. وتسببت سياسات بايدن، التي فتحت الباب واسعاً أمام دخول المهاجرين غير الشرعيين إلى تصاعد الأزمة الاقتصادية والأمنية خصوصاً في الولايات الجنوبية. ولم تنجح هاريس في تحقيق أي اختراق يذكر في ذلك الملف، رغم أنه كان من ضمن المهام المكلفة بالتعامل معها خلال فترة عملها كنائب للرئيس. لم يهتم ترامب خلال دعايته الانتخابية بتكرار نيته ملاحقة وطرد المهاجرين غير الشرعيين من البلاد فقط، بل ركز أيضاً على سياسة قائمة على حماية الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، واستكمال بناء السور الفاصل بين بلاده والمكسيك، الأمر الذي عزز تلك الأهداف والنوايا لدى الناخب الأميركي.
ورغم أن السياسة الخارجية لا تعتبر في العادة من ضمن أولويات الناخب الأميركي، إلا أنه اهتم بها في هذه الانتخابات لأنها تمس مباشرة بالاقتصاد. وهناك غالبية واسعة في الشارع الأميركي ترفض سياسة بايدن، والتي لم تتخل عنها هاريس، الداعمة مالياً وعسكرياً بشكل واسع لأوكرانيا. ويرى الأميركيون أن سياسة بايدن وهاريس تجاه الحرب في أوكرانيا تأتي من حسابهم وعلى حسابهم. فبينما يرى الناخب الأميركي مئات ملايين الدولارات تذهب لدعم أوكرانيا والناتو، ترتفع نسبة الفقر بين الأميركيين يوماً بعد يوم، وترتفع أسعار المواد الأساسية، وهو أمر يؤرق المواطن الأميركي بشكل كبير. ولم يتوان ترامب في حسم أمر ذلك الملف في دعايته الانتخابية بقوة، فأكد أن الحرب ستتوقف في أوكرانيا بمجرد وصوله للحكم. ويصدق الأميركيون ترامب، بسبب تجربة حكمه السابقة، التي نسج خلالها علاقات غير عدائية مع روسيا، وهدد بالانسحاب من الناتو، وعدم دعمه.
وأثر الملف الفلسطيني المرتبط أيضاً في السياسة الخارجية في هذه الانتخابات، لأنه ارتبط بالصوت العربي والمسلم، وكذلك أصوات عدد من شباب الجامعات، الذين قاموا بمعاقبة الديمقراطيين وإدارة بايدن ونائبته هاريس، لدعمهم المفتوح لحكومة الاحتلال في حرب الإبادة في غزة والاعتداء على لبنان، رغم عدم تأكدهم من أن توجهات ترامب يمكن أن تكون أفضل. كما لم ينجح حزب الخضر ومرشحته الرئاسية جيل ستاين، المعروفة بدعواتها لوقف تسليح أوكرانيا وإسرائيل، ووقوفها إلى جانب القضية الفلسطينية، في حشد الأصوات، بل على العكس كان أداء الحزب في الانتخابات الماضية أفضل بكثير، وجاء ذلك لصالح ترامب في الانتخابات أيضاً.
وكان تمسك هاريس بنصرة المبادئ الليبرالية التي يتبناها الحزب الديمقراطي، وما يتعلق بها من قضايا اجتماعية ترتبط بالحريات كالإجهاض والمثليين، على حساب القضايا التي يعيرها الناخب الأميركي أولويته الأكبر كالاقتصاد والمهاجرين، سبباً آخر في الانفضاض من حولها. ويعتبر عالم السياسة جوزيف ناي أن قيم الليبرالية التي تتبناها الولايات المتحدة بمثابة قوتها الناعمة. وهي ما فشلت الولايات المتحدة بالاحتفاظ بتلك القوة ومصداقيتها، عبر السنوات الأخيرة، التي شنت خلالها الاعتداءات على دول الغير وانتهكت حقوق الإنسان ودعمت الاحتلال وهددت المحاكم الدولية وغيرها من الممارسات التي لم تعد بعيدة عن أنظار العالم. وقد عكس ذلك حالة من الانفصال عن الواقع الذي يعيشه الحزب الديمقراطي، الذي يتبنى قيم الحرية والديمقراطية والعدالة في القضايا التي تهمه ويتجاهلها في القضايا الأخرى، حتى على المستوى الوطني. فشاركت إدارة بايدن في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني الذي يقبع تحت الاحتلال، وقمعت حرية التعبير في الجامعات الأميركية التي ناصرت القضية الفلسطينية وطالب بوقف حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني.
كما كشفت الانتخابات حالة من الانفصال التي يعيشها الحزب الديمقراطي عن المجتمع الأميركي. فأظهرت الخارطة الانتخابية كيف كان يتم التصويت للديمقراطيين في عواصم الولايات والمدن الكبرى التي يسكنها معظم المثليين والمتحررين، فتظهر كبقعة زرقاء ترمز لتجمع المؤيدين الديمقراطيين في محيط واسع يظهر باللون الأحمر، ويعكس تجمع نسبة الداعمين للحزب الجمهوري، في المدن الصغرى والقرى. فيميل الكثير من سكان المدن الصغرى والقرى للمحافظة والتدين، ويعتبرون أن هناك حريات تفرضها الحكومة تضر بمجتمعاتهم ومستقبل أبنائهم، كقضية المثليين والإجهاض، وهو ما ركز عليه ترامب، وأبدى موقفاً محافظاً واضحاً من تلك القضايا.
كما يعد بحث الناخب الأميركي عن رئيس ذي شخصية قوية مثل شخصية ترامب، بعد حقبة من حكم الرئيس بايدن الضعيف، سبباً آخر في حسم الكثير من الناخبين المترددين قرارهم بانتخابه. اعتبر ٦٠ في المائة من الناخبين الرجال من أصول لاتينية أن لترامب شخصية قوية. لم تستطع هاريس المرأة الملونة إقناع الناخب الأميركي بانتخابها، ليس فقط لأن المجتمع الأميركي ليس جاهزاً لانتخاب امرأة وملونة، بل لأنها أيضاً لم تنجح في إقناع الناخب بأنها تمتلك شخصية قوية لها ملامح واضحة ومستقلة عن نهج بايدن في الحكم. كما اعتبر الجمهور الأميركي أن الحزب الديمقراطي، قد خدعه فيما يتعلق بصحة الرئيس بايدن، وكانت هاريس شريكة في هذا الخداع.
في الختام، جاءت توجهات ترامب الانتخابية واضحة ومحددة لحد بعيد، جذب الكثير منها قبول الناخبين. وكان معظم تلك الأفكار قد طرحت في خطة أو مشروع ٢٥٢٥، وهو مشروع لانتقال الرئاسة، ووضع من قبل مؤسسة هيريتيج، يمهد الطريق لعمل إدارة محافظة، تعمل على التخلص من الموظفين الفدراليين البيروقراطيين، وتجعل مسؤوليتهم تقع أكثر تحت إدارة الرئيس المنتخب والكونغرس. يأتي ذلك بالإضافة لقضايا أخرى كتأمين الحدود، وإنهاء بناء الجدار، وترحيل الأجانب غير الشرعيين، وإنتاج الطاقة الأميركية للحد من الأسعار وغيرها، ومعظمها قضايا تناولها ترامب في دعايته الانتخابية. تقترن القضايا التي طرحها ترامب في دعايته الانتخابية حالياً وبشكل مباشر بالتعيينات التي يقدم عليها ترامب لأعضاء حكومته وطاقمه الوظيفي، قبل استلامه للحكم رسمياً في العشرين من شهر كانون الثاني القادم، والتي تظهر ميله لتعيين مسؤولين يتبنون الأفكار التي طرحها بقوة. وأما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والقضية الفلسطينية، فإن المرشحين من قبل ترامب لتولي مناصب عليا، كوزير الخارجية ووزير الدفاع ومستشار الأمن القومي وسفير واشنطن في الأمم المتحدة وسفير واشنطن في تل أبيب، فغالبيتهم شخصيات يدعمون الاحتلال وحكومته ولا يعترفون بحل الدولتين، ولا يرفضون فكرة الضم. ويبدو أن الفلسطينيين سيواجهون مزيداً من السنوات العجاف.