العدالة الدولية الغائبة: اعتقال نتنياهو هو الاختبار

0

د. سنية الحسيني

من الممكن اعتبار أن إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات لاعتقال رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعها السابق يوآف غالانت بتهم تتعلق بحرب الإبادة المتواصلة في غزة منذ أكثر من عام تطور نوعي، لكن الحدث الاستثنائي قد يكون بإلقاء القبض على المتهمين بالفعل. وتتواصل جرائم الاحتلال في غزة، دون وجود أي مؤشرات تشير لوقف حرب إبادة تستهدف ٢ مليون إنسان. وتمعن قيادات الاحتلال بتهديد الغزيين، الأمر الذي يعكس توفر النية بارتكاب هذه الجريمة. ويستمر الفعل ويتصاعد قتل الفلسطينيين بشكل مباشر يومياً، إما حرقاً بنيران أسلحة المحتل أو تحت أنقاض التدمير الذي يخلفه قصف طائراته ودباباته وبارجاته، بينما يتسبب نقص العناصر الأساسية للحياة كالطعام والدواء وانعدام الخدمات الطبية منذ أكثر من عام، بالإضافة للتشرد في خيام مهترئة بدون توفر أدنى مقومات الصمود، بمزيد من الخسائر في أرواح الأبرياء. ويشكل الصمت الدولي، وعجز المؤسسات الدولية عن حماية المدنيين، الذين يقبعون فعلياً تحت الاحتلال، سابقة خطيرة، وتقصيراً يشكل وصمة عار في مفهوم العدالة والإنسانية لم يشهده التاريخ قط.
وقد يكون إلقاء القبض على نتنياهو تحديداً، وباقي المتورطين بجرائم الإبادة في غزة، ليمثلوا أمام المحكمة الجنائية الدولية لتحقيق العدالة، الرسالة الأقوى والأهم اليوم، والتي يمكن أن توقف حرب الإبادة المستمرة في غزة، وتلقن دولة الاحتلال درساً مهماً. وقد تفسر ردة فعل الكثير من دول العالم، بما فيها دول غربية حليفة لدولة الاحتلال بتوجّهها لإلقاء القبض على نتنياهو، تنفيذاً لقرار المحكمة ومذكرات الاعتقال تفهماً دولياً لتعقيدات حرب الإبادة في غزة وعجز المنظومة الدولية عن تحقيق العدالة وحماية المدنيين من خلالها. وتستطيع دول العالم سواء كانت طرفاً من أطراف المحكمة أو لم تكن طرفاً فيها أيضاً، عدم السماح بمرور نتنياهو والآخرين المتهمين، عبر أراضيها أو أجوائها، وفي حال مرور المتهمين، إلقاء القبض عليهم فوراً وتسليمهم للمحكمة في لاهاي للخضوع لاجراءات المحاكمة. إن إصرار دول العالم على الالتزام بتنفيذ قرار المحكمة سيساهم في عزل دولة الاحتلال، التي تواصل بعناد جرائمها، مستهينة بمنظومة دولية كاملة، ومحاكمة المتهمين، في حال تم القبض عليهم، الأمر الذي قد يوقف حرب الإبادة الجارية أمام أنظار العالم الذي يقف بعجز لمنعها.
من المفهوم أن الولايات المتحدة شريكة الاحتلال في جرائمه في غزة، والتي تمده بالسلاح والعتاد اللازم لاستكمال حربه، استخدمت الفيتو خمس مرات في مجلس الأمن منذ اندلاع حرب الإبادة على غزة، لتضمن لشريكه مواصلتها. إن التوجه الأميركي لا يعكس توجهات الدول الدائمة الأخرى في المجلس، والتي صوتت أكثر من مرة لوقف الحرب، ولا يعكس قرار معظم دول العالم أيضاً، التي صوتت بأغلبية عظمى في الجمعية العامة لوقف الحرب، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان ضرورة مراجعة عمل هذه المنظمة الدولية برمتها، وهي قضية طرحت ولا تزال على بساط البحث من قبل جهات دولية عديدة. إن عجز مجلس الأمن عن تحقيق الدور المنوط به بفرض الأمن والسلم الدوليين، والتغاضي عن جرائم الاحتلال عبر السنوات الماضية، قد يعتبر المسؤول الأول اليوم أمام تمادي هذا الكيان، ووصوله لهذه الحالة من الهمجية والوحشية والتحدي لمنظومة عالمية بأسرها، في ظل حماية الولايات المتحدة له.
رغم نجاح المحكمة الجنائية الدولية في السابق، التي تأسست في العام ٢٠٠٢، بإصدار عدد من مذكرات اعتقال لرؤساء دول وشخصيات سياسة من الصف الأول، ومثول عدد منهم أمام المحكمة للتحقيق معها، إلا أن ذلك لا يعني أن المحكمة قد نجحت في تحقيق العدالة عبر السنوات الماضية. فقد اتهم الاتحاد الأفريقي المحكمة بأنها تركز على القادة الأفارقة في تحقيقاتها وقضاياها، وانسحب عدد من الدول الأفريقية بالفعل من المحكمة. وتتهم المحكمة بأنها تركز فقط على دول العالم الثالث خصوصا الأفريقية، أو الدول غير الغربية، وكان قرار المحكمة بإصدار مذكرات اعتقال بحق قادة دولة الاحتلال سابقة غير معهودة. كما أن العديد من القادة الذين صدرت بحقهم مذكرات اعتقال، كرئيس السودان السابق عمر البشير، والرئيس الروسي فيلاديمبر بوتين لم يتم اعتقالهم حتى من قبل دول أطراف في المحكمة. حتى أن الرؤساء الذين مثلوا أمام المحكمة للتحقيق معهم، أعلنت المحكمة براءتهم بعد ذلك. وكل ذلك يشير لمدى العجز والضعف الذي يصيب المحكمة.
قد يشكل القبض على نتنياهو ومحاكمته انجازاً حقيقياً لهذه المحكمة ولمفهوم العدالة بشكل عام الذي بات يفتقده العالم اليوم. بعد الحرب العالمية الثانية توجه العالم لتبني محاكمة الأشخاص المتمتعين بالحصانة كرؤساء الدول عند ارتكابهم الجرائم الكبرى، كجرائمة الحرب وضد الإنسانية والإبادة الجماعية والعدوان، رغم أن حصانة المسؤولين عرف دولي متعارف عليه. وبالفعل نجحت المحاكم الجنائية الدولية التي تشكلت ليوغوسلافيا عام ١٩٩١ وروندا عام ١٩٩٣، بتبني تلك المقاربة. كما أن نظام روما الأساس المنظم لعمل المحكمة الجنائية الدولية تبنى أيضا تلك المقاربة، إلا أن وجود نصوص فضفاضة في النظام جعلت قضية التطبيق ترجع الأمر لسيادة الدول ولنصوص معاهدات أخرى، وعدم وجود محاسبة أو عقاب للدول المخلة بالنظام، الأمر الذي جعل مسألة التطبيق مثار جدل، وساهم في عجز المحكمة بتحقيق العدالة. وقد تكون قضية الاحتلال المنظورة اليوم أمام المحكمة فرصة لإرساء العدالة، وتثبيت القواعد والنظام، فالعدل يحتاج لحسم ووضوح، لا مكان فيه للنصوص الفضفاضة.
قد تتحقق العدالة اليوم بإلقاء القبض على نتنياهو، الأمر الذي قد يساهم أيضاً بإخراج دولة الاحتلال نفسها من مأزقها. فالحالة السياسية داخل دولة الاحتلال تعاني من التخلخل والانقسام، فرغم أن المحكمة الجنائية الدولية تتبني مبدأ التكاملية، والذي يعني أن فتح تحقيق في بلد المتهم، يرجئ التحقيق في المحكمة الدولية، لأن الأولوية للقضاء المحلي، إلا أنه بسبب تجاهل أو عجز القضاء المحلي عن أداء مهامه، لم تنجح المنظومة القضائية الإسرائيلية بفتح تحقيق مع نتنياهو، الأمر الذي يعكس الأزمة في دولة الاحتلال. فقد دعت المستشارة القضائية لإجراء تحقيقات رسمية بأحداث السابع من أكتوبر، إلا أن نتنياهو رفض ذلك، ودعاها لإجراء تحقيق شكلي، لإرسال ملف التحقيق للمحكمة، وهو ما رفضته المستشارة القضائية، معتبرةً أن ذلك سيؤذي المنظومة القضائية عندهم. ولا ينفصل تلك التطورات عن صراع بدأ منذ وصول نتنياهو وحكومته اليمينية إلى الحكم ومساعيها لإحداث تعديلات قضائية ترفضها المنظومة العلمانية في البلاد.
وفي الختام، رغم تأخر المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو ومن معه، والتي جاءت بعد أكثر من عام من حرب إبادة دموية حركت مشاعر العالم، مقارنة بتلك المذكرات التي صدرت بحق بوتين، وخلال فترات زمانية متقاربة، كما أنها تأخرت بالنظر بالحالة الفلسطينية برمتها، والتي أرجأت لسنوات. إلا أن الفرصة مهيئة الآن أمام المحكمة لإثبات إمكانية تحقيق العدالة، بعد أن زاد تشكك العالم بتحقيقها، في ظل منظومة غربية مسيطرة، خصوصا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التي رزحت تحت براثن هذا الظلم منذ العام ١٩١٧ حتى اليوم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

الاسطورة تويتر _ الاسطورة الجديد _ العمدة سبورت _ ترددات القنوات _ سعر الدولار اليوم