محور صلاح الدين مفجر المفاوضات
د. سنية الحسيني
في إطار جولة تفاوضية جديدة، ودون وجود أفق لتحقيق أي إختراق فيها، جاء وزير الخارجية الأميركي للمنطقة، للمرة التاسعة خلال أشهر حرب الإبادة التي يشنها كيان الاحتلال على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي، مع عدم قدرة بلاده على اخفاء انحيازها الأعمى ودعمها المفتوح للاحتلال. تأتي مفاوضات وقف إطلاق النار والتبادل الجارية حالياً بمبادرة أميركية، في محاولة لإخراج المنطقة من مأزق الإنزلاق إلى حرب إقليمية أوسع. ورغم أن جولة المفاوضات الجارية حالياً لا تختلف في الهدف عن جولات سابقة، عقدت على أساس الخطة التي عرضها الرئيس الأميركي جو بايدن نهاية أيار الماضي، والتي قبلت بها حركة حماس، إلا أن تعديلات نتنياهو عليها بعد ذلك وفي كل مرة يتم طرحها، يجعل امكانية الوصول لإتفاق بعيدة، بما فيها هذه المرة. ومن بين أهم القضايا التي تشكل نقطة خلاف محورية حتى اللحظة تمسك نتنياهو بإبقاء محور صلاح الدين “فيلادلفيا” الحدودي مع مصر تحت السيطرة الاسرائيلية، والذي لم يكن تحت سيطرة الاحتلال عندما وضع بايدن خطته للمفاوضات، بالإضافة إلى قضايا أخرى من بينها إحكام السيطرة الإسرائيلية على محور أقامه الاحتلال، يفصل شمال القطاع عن جنوبه، وإخضاع المواطنين الفلسطينيين للتفتيش في حال رغبتهم بالعوده لبيوتهم في شمال القطاع، والتدخل في قوائم ومصير الأسرى الفلسطينيين التي حددتها حركة حماس. فما سر تمسك الاحتلال بمحور صلاح الدين؟
يعتبر محور صلاح الدين شريطاً حدودياً عازلاً، يقع داخل الأراضي الفلسطينية، وفق الخطوط التي رسمها الإنتداب البريطاني. ويمتد طوله حوالي ١٤ كيلومتراً، من بحر قطاع غزة في أقصى الجزء الجنوب الغربي حتى الجزء الجنوبي الشرقي للقطاع، نقطة الالتقاء مع صحراء سيناء، ولا يتجاوز عرض المحور بضع مئات الأمتار. واعتبرت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وكيان الاحتلال الموقعة في العام ١٩٧٩ أن محور صلاح الدين منطقة عازلة، تخضع للسيطرة الاسرائيلية، وصنفت بالمنطقة (د) في الاتفاق، والذي نص على تواجد قوات محددة العدد والعدة للاحتلال في المحور، قوامها ١٨٠ مركبة مدرعة، وأربعة آلاف عنصر، ومنشآت عسكرية وميدانية، تلاصقها منطقة منزوعة السلاح على الجانب المصري، صنفت بالمنطقة (ج)، سمح الاتفاق بتواجد عناصر شرطة مدنية مصرية مسلحة بأسلحة خفيفة فيها. وبقي الوضع على ما هو عليه بعد توقيع إتفاقيات أوسلو، الأمر الذي يعني بقاء السيطرة الأمنية والعسكرية للاحتلال على حدود غزة، كما الضفة الغربية.
صادق الكنيست على قرار انسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة في العام ٢٠٠٤، ودخل حيز النفاذ في آب من العام التالي. ونصت خطة “فك الارتباط” على احتفاظ إسرائيل “بوجود عسكري لها على طول الخط الحدودي الفاصل بين قطاع غزة ومصر أي محور صلاح الدين. في العام ٢٠٠٥، وبعد انسحاب الاحتلال أحادي الجانب من غزة، تسلمت السلطة الفلسطينية إدارة معبر رفح، برقابة أوروبية، بعد توقيعها على إتفاقية المعابر والحدود مع حكومة الاحتلال. وفي الشهر التالي وقع الاحتلال على بروتوكول فيلادلفيا مع مصر، وصادق الكنيست على البروتوكول، الذي عارضه نتنياهو والأحزاب الدينية والمتطرفة في حينه، والتي تقف على رأس الحكم اليوم، واعتبر نتنياهو ذلك التصديق من الكنيست بمثابة إقرار بحدود ١٩٦٧. ولا يغير بروتوكول فيلادلفيا، الذي يعتبره الاحتلال ملحقا أمنيا لاتفاقية كامب ديفيد ومحكوم بمبادئها العامة وأحكامها، حالة المنطقة المصرية الحدودية المنزوعة السلاح المصنفة في معاهدة كامب ديفيد بالمنطقة (ج)، الملاصقة لمحور صلاح الدين العازل، إلا أنه سمح، وبتنسيق معه، بتواجد قوات مصرية من حرس الحدود غير عسكرية، عددها ٧٥٠ عنصر، عدد منهم مسلح بأسلحة خفيفة، وعدد محدد من العربات المدرعة، للانتشار على طول محور صلاح الدين الحدودي لحفظ الأمن، ومنع التهريب والتسلل. فاحتفظ الاحتلال بالسيطرة العسكرية والأمنية الفعلية، ومنح لمصر مهمة مراقبة أمنية محدودة على المحور، دون تواجده الظاهر. بعد عامين من استلام مصر لمحور صلاح الدين، قام الاحتلال ببناء جدار لعزل المحور نهائياً عن مصر، بعد سيطرة حركة حماس على معبر رفح، التي قامت بادارته بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية. وبعد احتلال محور صلاح الدين بعد “طوفان الأقصى” تراجع الاحتلال وبشكل أحادي منفرد عن تفاهماته مع مصر، بموجب بروتوكول فيلادلفيا لعام ٢٠٠٥، وأعاد سيطرته المباشرة على المحور، بقوات وعتاد تجاوز أيضاً حدود ما نصت عليه معاهدة كامب ديفيد للسلام مع مصر لعام ١٩٧٩.
أعلن الجيش الاحتلال في ٢٩ أيار الماضي استكمال سيطرته العسكرية الكاملة على محور صلاح الدين. وكانت النية مبيته للاحتلال للقيام بذلك منذ شن هجومه على غزة. فتكررت اعتداءات الاحتلال على محور صلاح الدين، وقصفت دبابة للاحتلال برج مراقبة مصري في تشرين أول الماضي، وشنت القوات الجوية للعدو هجوماً على طول المحور في كانون الأول الماضي. وأعلن نتنياهو أكثر من مرة منذ بدء الحرب عن رغبة حكومته بالسيطرة على محور صلاح الدين، معتبراً المحور بالثغرة التي يجب إغلاقها، ومؤكداً أن أي ترتيب آخر لن يضمن نزع سلاح حركات المقاومة في غزة ولن يكون مقبولاً، وأن استمرار سيطرة الاحتلال على محور صلاح الدين أحد شروط أي صفقة ممكنة. ونقل موقع «أكسيوس» الأميركي تصريحات لـ نتنياهو تفيد بعدم نيته الانسحاب من محور صلاح الدين لأهميته العسكرية والاستراتيجية. وفي شباط الماضي، كشفت «القناة13» العبرية عن رغبة حكومة نتنياهو في نقل موقع معبر رفح، ليكون بالقرب من معبر كرم أبو سالم التجاري، في خطوة تعني إلغاء وجود معبر رفح الذي يديره الفلسطينيون. وخلال المفاوضات الجارية حالياً، أكد ديفيد منسر، المتحدث بإسم الحكومة الإسرائيلية يوم الإثنين الماضي، أن إسرائيل ستبقى في محور صلاح الدين، لضمان عدم نقل الأسلحة إلى حركة حماس في قطاع غزة. جاءت تصريحات منسر بعد بيان صدر عن مكتب نتانياهو، في أعقاب وصول بلينكن إلى تل أبيب، شدد على بقاء جيش الاحتلال في محور صلاح الدين. وقدم المفاوضون الاسرائيليون مؤخراً خريطة تظهر تخفيض عدد قوات الاحتلال في محور صلاح الدين دون سحبها. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مسؤولين أميركيين مطلعين على مفاوضات وقف إطلاق النار الحالية في غزة أن الاقتراح الأميركي الجديد للتوصل إلى إتفاق لإطلاق سراح المحتجزين ووقف إطلاق النار من شأنه أن يسمح للقوات الإسرائيلية بمواصلة دورياتها في جزء من محور صلاح الدين. إن ذلك الموقف الأميركي يفيد صراحة بتناهيه مع رغبة الاحتلال بإعادة السيطرة على محور صلاح الدين، وفق تفاهمات معاهدة كامب ديفيد، والسيطرة الإسرائيلية المباشرة على الحدود الفلسطينية الجنوبية مع مصر.
في خضم تلك التطورات، شهدت الأسابيع الماضية حالة من التوتر بين مصر والكيان المحتل، فرفض الرئيس المصري تلقي مكالمة هاتفية من نتنياهو، وثمنت حركة حماس الموقف المصري الرافض للوجود العسكري الإسرائيلي في محور صلاح الدين، ونفى بيان عن الجهاز الحكومي المسؤول عن الإعلام الأجنبي في مصر الادعاءات الإسرائيلية حول وجود عمليات تهريب للأسلحة والمتفجرات إلى قطاع غزة من الأراضي المصرية عبر أنفاق زعم الاحتلال بوجودها على جانبي الحدود. وكانت مصر قد شنت حملة لتدمير الأنفاق في أعقاب الإطاحة بالرئيس المصري السابق محمد مرسي، وبنت جدارا فاصلاً، وأزالت منازل ومزارع بمدينة رفح المصرية وقراها، وأقامت منطقة حدودية عازلة تمتد حوالي خمس كيلومترات في عمق سيناء.
يشكل وجود الاحتلال في محور صلاح الدين اليوم انتهاكاً لاتفاقية كامب ديفيد للسلام الموقعة مع مصر في العام ١٩٧٩، ولبروتوكول فيلادلفيا الموقع معها في العام ٢٠٠٥. وتضع معاهدة كامب ديفيد سقفاً لحدود التواجد العسكري والأمني الإسرائيلي في محور صلاح الدين كمنطقة عازلة، تخطاه الاحتلال اليوم بكثير، والذي لا يمكن تجاوزه أو تغيره إلا باتفاق الطرفين، كما جرى في بروتوكول فيلادلفيا. وتعدى هجوم الاحتلال على محور صلاح الدين في هذه الحرب على تفاهمات فيلادلفيا، والتي سمحت لقوات شرطية مصرية للتواجد في المحور لحفظ الأمن. وعليه يعتبر تعدي الاحتلال على محور صلاح الدين انتهاك لاتفاقية كامب ديفيد وبنود برتوكول فيلادلفيا. كما تعد تصريحات قادة الاحتلال بامكانية خفض قواتها المتواجدة في المحور اليوم، وهو ما وافقت عليه واشنطن أيضاً، يعني إستعادة للحاله التي أرستها إتفاقية كامب ديفيد مع مصر، الأمر الذي يعيد وضع الحدود الفلسطينية تحت السيطرة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، بعد أن تسلمت مصر المسؤولية الأمنية بالتنسيق مع الفلسطينيين. إن ذلك يستشرف نية الاحتلال بسحب ما أرسته إتفاقية أوسلو بمنح إدارة المناطق للسلطة الفلسطينية في الضفة وغزة، وبعض جوانب حفظ الأمن، والذي قد يعني أن المؤامرة ضد غزة تأتي في سياق أوسع.